ضرب الطاعون مدينة حلب السورية، في القرنين الميلاديين السابع عشر والثامن عشر، مرات عديدة، كان فيها عدد الموتى، كبيراً، فيما ضربت المدينة بطواعين أخرى، إلا أنها لم تكن بالخطورة التي أتت عليها طواعين ثلاثينيات وأربعينيات القرن الثامن عشر.
وكانت حلب كغيرها من مدن سوريا، خاضعة للحكم العثماني، في ذلك الوقت، إلا أن العثمانيين أنكروا حقيقة تفشي الطاعون، بتعمدهم إخفاء نصف عدد الضحايا وأمكنة تعرضهم للعدوى، حسب ما ذكره كتاب ألف عن تلك المرحلة، وكتبه طبيبان بريطانيان أقاما في حلب السورية، في ذلك الوقت، وساعدا أهلها على تجاوز الكثير من المصاعب والمحن المرتبطة بالطاعون، فضلا من إقامتهما علاقات عميقة مع جميع طبقات المجتمع الحلبي من مسلمين ومسيحيين ويهود.
طبيبان بريطانيان في حلب
وألف الطبيبان البريطانيان الشقيقان، ألكسندر راسل (1715-1768م) وباتريك راسل (1727-1805م) كتاب (تاريخ حلب الطبيعي في القرن الثامن عشر) الذي يعتبر تحفة تاريخية وعلمية واجتماعية نادرة، خاصة وأن المؤلفين طبيبان، وكان يمارسان عملهما طبيبين للجالية التجارية البريطانية في مدينة حلب. فكان كتابهما عبارة عن وثائق عيانية مباشرة، أضافا في آخرها ملحقاً بأسماء أشهر علماء الطب المسلمين، ما يؤكد حجم ثقافتهما التاريخية والعلمية، بسحب محققين.
أفرد الكتاب فصلاً خاصا عن مرض الطاعون الذي ضرب حلب، والفئات الاجتماعية التي تأثرت به، ولأن المؤلفين طبيبان، فإن التشخيص الوارد فيه للمرض ونتائجه ومحاولات علاجه، تعتبر علمية تامة، وعلى هذا الأساس سبق وترجم الكتاب إلى مختلف لغات العالم ومنها العربية على يد المترجم خالد الجبيلي.
مكان الطاعون
ويورد الكتاب أن أهالي حلب يسود لديهم اعتقاد بأن الطاعون “ينقل إليهم من أماكن موبوءة أخرى مثل كلس وعنتاب وأورفة” التركية المحاذية للحدود مع المدينة. ويؤكد المؤلفان، صحة اعتقاد الحلبيين في أنهم لا يصابون بالطاعون إلا إذا جاءهم من جهة الشمال، ويقولان إن الطاعون لمّا يتفشى في الاسكندرونة، فإنه يأتي إلى الحلبيين من خلال مدن كلس وعنتاب، مشيرين إلى طواعين كثيرة ضربت المنطقة في أعوام سابقة.
وانتشر أحد الطواعين في حلب ما بين عامي 1742 و1743م، وتفشى بقوة في شهر أيار/ مايو من سنة 1743، وكان الطبيبان يسعيان لمعرفة عدد المصابين والموتى وأماكنهم كجزء من خطط العلاج والوقاية التي يقومان بها، إلا أن جميع الإحصاءات التي كانت بين أيديهم، تبين أنها غير دقيقة، بسبب إخفاء حقيقة الواقع! ويقولان إنهما لم يتمكنا من معرفة الأرقام الحقيقية، خاصة وأن عدد “الوفيات بين المسلمين كان كبيراً” ثم يوضحان أن “الإنكشارية” وهي إحدى الفرق العثمانية العسكرية الشهيرة، لم تقدم إلا نصف الحقيقة فقط: “يتفق الجميع بأنهم لم يجلبوا تقارير عن نصف عدد الوفيات!”
الإنكشارية لا يجرؤون على قول الحقيقة!
ويضع المؤلفان ملاحظات عن بدء انكشاف حقيقة الوضع المأسوي لأبناء حلب، إثر الإصابة بالطاعون، ويقولان إنهما أخذا يسمعان عن إصابة أعداد أكبر من قبل، ويعلقان: “مما يمنحنا سبباً معقولاً للشك في صحة التقارير التي يقدمها الانكشارية”.
موضوع يهمك
? خلال العام 1812، قاد الإمبراطور الفرنسي نابليون بونابرت واحدة من أتعس العمليات العسكرية التي عرفها التاريخ، حيث اتجه…
وباء قضى على أحلام نابليون.. قتل الفرنسيين وأنقذ روسيا
الأخيرة
ويبدو أن الطبيبين سمعاً كلاماً صريحاً من الانكشارية نفسها، بعدم مقدرتها على الإقرار بحقيقة الواقع، فيذكران: “بالفعل، صرّحوا بأنهم لا يجرؤون على جلب تقارير حقيقية لنا”. ما يعني أن الانكشارية كانت تلقت أوامر عليا، بعدم ذكر حقيقة أعداد المصابين والوفيات.
ويقول المؤلفان إنها ذكرا تلك المعلومات عن الإنكشارية “لإظهار أنه لا يمكن الاعتماد عليهم” في مسألة حقيقة الإصابات بالطاعون وعدد الوفيات. ثم يؤكدان أن العثمانيين لم يذكروا الرقم الحقيقي من وفيات المسلمين. وتفشى الطاعون بقوة أكبر، وازداد عدد الموتى والجنائز بشكل كبير بين السوريين وغير السوريين في مدينة حلب، ومن جميع الأديان، كما يبين الكتاب.
كمّامة وخَلّ خالص
ويظهر تاريخ حلب الطبيعي، وبلغة طبية علمية، تشخيص الطاعون والتطور الذي يحل بالمصاب به، وصولا إلى الوفاة، أو التماثل للعلاج، في أحيان نادرة.
ومن جملة إرشادات، ومنذ ذلك الوقت، يوضح الكتاب كيفية الوقاية من الطاعون، بطرق مختلفة، كالاعتكاف في البيوت، ثم إقفال البيوت والمقار بشكل تام وعدم الخروج منها لأي سبب، بعد تأمينها بالمواد الغذائية، مع توظيف عامل خاص يتولى من الخارج، إيصال الطلبات إلى البيوت المقفلة، بواسطة حبْل ومن خلال نافذة من فوق السلالم! ثم يتم غسل أي شيء يتم إدخاله إلى البيت، بالخلّ، حتى الرسائل والأوراق ترش بالخل ثم تدخّن بالكبريت.
أمّا من لديهم قطط، في بيوتهم، فهذا خطر كبير، بحسب كتاب تاريخ حلب الطبيعي، ففيه توصية بحبس القطة المفضلة في بيت صاحبها ومنع خروجها مطلقاً، أما القطط التي تشاهد وهي تتنقل بين البيوت، فمصيرها قاسٍ جدا وينتهي بالموت قتلاً. ويشير الطبيبان، إلى ما يشبه الكمّامة، في وقتنا الحاضر، حيث يوصيان بالتنفس “من خلال طيات مزدوجة من منديل مندّى بخلّ خالص”، إذا ما كانت هناك حاجة ماسة لزيارة مصاب أو المرور في مكان فيه مصابون أو جثث مصابين ماتوا بالطاعون.