على مر التاريخ، شهد مجال العلوم العديد من العداوات والخلافات بين العلماء التي سرعان ما تطورت لسباق علمي ركّز أساسا على الأبحاث التجريبية وساهم في ظهور نظريات جديدة عادت بالنفع على البشرية ودحضت الكثير من المفاهيم القديمة والخاطئة.
وإضافة لعداوة توماس هكسلي وريتشارد أوين في مجال علوم الأحياء وعداوة العالم الإنجليزي إسحاق نيوتن ومواطنه روبرت هوك، دوّن التاريخ خلال القرن التاسع عشر تنافسا مذهلا بين كل من الطبيب وعالم البيولوجيا الفرنسي لويس باستور (Louis Pasteur) ونظيره الألماني روبرت كوخ (Robert Koch) حيث جاء هذا التنافس خلال فترة زمنية تميّزت بتدهور العلاقات بين فرنسا وألمانيا.
ما بين عامي 1870 و1871، عاش العالم على وقع أحداث الحرب الفرنسية البروسية التي أسفرت عن سقوط مئات الآلاف من القتلى والجرحى من كلا الطرفين وانتهت بهزيمة مذلة لفرنسا وانتصار البروسيين وتوقيع معاهدة فرساي التي أفضت لانتزاع منطقة الألزاس لورين من الفرنسيين وإعلان قيام الوحدة الألمانية.
وفي خضم هذه الأجواء المشحونة، شهد العالم بداية التنافس بين كل من روبرت كوخ ولويس باستور حيث غذّت الميول القومية لكلا الطرفين هذا النزاع الذي أسفر في النهاية عن تحقيق مكاسب علمية خدمت الإنسانية.
بحلول سبعينيات القرن التاسع عشر، وجّه العالم الفرنسي لويس باستور ناظره نحو مجال الأمراض بعد أن قاد أبحاثا طيلة العقود السابقة حول الكيرالية والتخمر والبسترة ملهما بذلك الجراح البريطاني جوزيف لستر (Joseph Lister) لإدخال طرق التعقيم على الجراحة.
وأثناء تلك الفترة، كرّس باستور أبحاثه لدراسة الجمرة الخبيثة واتجه لدراسة إمكانية الحصول على مناعة ضدها. وبالتزامن مع ذلك، اهتم العالم الألماني روبرت كوخ بنفس المرض، فعمد لإجراء تجارب لعزل وتحديد البكتيريا المسببة للجمرة الخبيثة.
إلى ذلك، لم تؤثر هذه الأبحاث كثيرا على العلاقة الطيبة بين الرجلين فأثناء مؤتمر لندن الطبي لعام 1881 التقى لويس باستور بنظيره الألماني روبرت كوخ أين تبادلا أطراف الحديث حول العديد من المواضيع العلمية.
من جهة ثانية، لم يتردد لويس باستور في الدفاع عن الأبحاث والنظريات التي توصّل إليها عدد من العلماء الفرنسيين السابقين عقب تعرضها لانتقادات وتشكيك من قبل علماء ألمان. وقد طالت عمليات الانتقاد باستور نفسه حيث شكك روبرت كوخ رفقة عدد من زملائه لأكثر من مرة في مدى صحّة بعض ما توصل إليه العالم الفرنسي.
وردا على ذلك، عقد لويس باستور مؤتمرا تسبب من خلاله دون قصد في تأجيج هذا التنافس العلمي بسبب خطأ في الترجمة. فأثناء المؤتمر، استعان باستور بكلمات “recueil Allemand” للإشارة للأبحاث الألمانية لكن أثناء الترجمة أخطأ المترجم واستعان بكلمة “orgeuil Allemand” والتي يقصد بها الازدراء والكبرياء الألماني مثيرا بذلك غضب كوخ وزملائه.
خلال السنوات التالية، اشتد التنافس بين الرجلين بالمجال العلمي فتمكن لويس باستور بعد سلسلة من الأبحاث من ابتكار تلقيح لداء الكلب الذي أرّق البشرية بينما نجح روبرت كوخ في تحديد البكتيريا المسببة لمرض السل. وقد ساهمت كل هذه الأبحاث التي أجراها باستور وكوخ في وضع حد لنظرية الميازما القديمة التي اختفت لتحل محلها نظرية جرثومية الأمراض.
في الأثناء، لم يتوقف هذا التنافس بين الرجلين واستمر على الرغم من وفاتهما. فعام 1887، ساهم لويس باستور في تأسيس المعهد الذي حمل اسمه (معهد باستور) بباريس، وعام 1891 بعث روبرت كوخ معهدا حمل اسمه (معهد روبرت كوخ) ببرلين. وقد صنّف هذان المعهدان حينها كأول المعاهد المخصصة للأبحاث حول علوم الأحياء والميكروبات والأمراض واللقاحات.